ولادة بورمة أو مئة عام على خراب زيلع
- theabdillahiraage
- Aug 11, 2019
- 4 min read
Updated: Apr 30, 2021
هل للمدن أرواح
هل تتمتع بشخصية
هل تمتلك ضميرا
أعتقد أنها تفعل، وقد يطول النقاش حول الأمر لكن لنؤجله لمرة أخرى
في مثل هذا الوقت قبل مئة سنة إستقبلت قرية صغيرة، قليلة السكان والصخب، واقعة وسط جبال متسلسلة تحيطها من الجهات الأربعة كالجدران جعلتها قلعة الطبيعية يسهل الذود عنها لقليلي العتاد، موجات من مهاجرين زيالعة مكونة من مجموعات متتالية من عائلات زيلعية عريقة وأسر وأفراد من أصحاب المهن والحرف المدنية وتجار وعلماء وعرافين وغيرهم من أصناف أهل المدن العتيقة وعامريها
فإلى جانب ما توفرها الجبال لحضريين الكثيرى المخاوف والمشاكل من تأمين طبيعي، فإن طبيعة المكان من طقس المعتدل طول السنة وهواءه العليل ووفرة المياه التى تحملها الوديان المنطقة، وذاك الغطاء الأخضر الغض الذى تكتسيه المدينة معظم أيام السنة وربما غيرها من حاجات إخفتها نفوس المساكنين الجدد ودفنت معهم، هى ما جعلتهم يستقرون فى بورمة، وبفعلهم ذلك فإنهم انتشلو تلك القرية من بين البلدات قريناتها ليحولوها إلى مدينة تتسوّد على ما حولها إلى ما شاء الله
يكمن فى اللحطة التحول هذه مشاعر متناقضة وملتحمة فى النفس الوقت ومرهونة ببعضها البعض، فنشوة الحدث لدى بورمة وفرحتها التى تطاهى فرحة أميرة أتاها فارس أحلامها فى عوالم الديسنى لاند ليأخذها إلى حيث كل ما تتمناه، بتحولها الأخيرا إلى مركز ومدينة حضرية تربط مدن الساحل كبربرة وزيلع وجيبوتى إلخ وبين مدن الداخل كديري دوا وهرر وجِجْجِجا، يختلط هذا الشعور بالسعادة بالإنكسار والتحطم الذي تذوق مرارته الزيالعة عند الخروجهم من مدينتهم التى لم تزل عامرة للآف السنين وقامت فيها وبها حضارات ودول حتى أعظت الإسم للممالك لإسلامية القامت بين المحيط الهندي والبحر الأحمر من جهة الساحل ونهر عواش ولهضبة الحبشية من جهة البر وكانت عاصمة لبعضها وحمل شعوب تلك الدول إسمها كهوية يعرَفون أنفسهم بها كزيالعة. على هذا الحالة من تناقط بنيت بورمة وما زالت صالحالة لفهم شخصيتها حتى الآن في رأي
تحتفل بورمة هذه السنة بمرور مئة عام على هذه اللحطة، فالهجرة الزيلعية الأساسية حدثت عام 1919 كما يرويها شيخ عبد الله شيخ على جوهر، شيخ البلد الأكبر -كما يلقب- وريث شيخ على جوهر بقورى، المعلم والفقيه الشافعى الكبير وإبن إحدى أكبر عوائل البورمية الزيلعة
تحتفل بومة بقرنها الأول كمدينة، فالمكان معمر لقرون كقرية قديمة واقعة فى وسط خط السير التجارة التاريخي من الساحل إلى الداخل، ففي جوارها جاراهرتو وظِلة وأوبرى وعمود القديمة وبكي القديمة وغيرها من محطات قوافل التجارة وممراتها، كما كانت محطة للمتصوفة المنطفة كما تدل عليه اسماء حاراتها الأشهر أتلى سميت على أسماء شيوخ الطرق الصوفية كشيخ على وشيخ عبدالسلام وشيخ مكاهيل وشيخ أحمد سلام وغيرهم، ويضا يروى الباحث المأرخ محمد ظاهر الزيلعى فالمنطقة تحتضن قبر تابعي فى شمال غربي المدينة مما يدل على كونها منطقة مسوكنة قديما
تحتفل المدينة بمئويتها الأولى وما زالت تعيش نفس التناقض المؤسس لها كما ذكرنا سابقا، ولو بلون آخر أو بالأحرى بألوان أخرى، ففي البداية كان الموت ممزوجا بالولادة، الإنهيار بالإنبعاث، الهزيمة بالفوز، الإنكسار بالإنجاز لكنها اليوم تعيش أزمة تناقض للإرث مع الحاضر، فإذا كان أهم ما ورثته “بورمة” من “زيلع” هو روحها أي روح القومية ذات بعدين العرقي والديني بمعنى يشمل الزيالعة القدامى من مسلمى القرن الإفريقي كله، فترى المدينة في نفسها من خلال هذا المنطار الكبير زيلعية فى العمق وترى من خلالها العالم فقد فعل الاستعمار ما فعل بهذه الأرض وجرت مياه الدولة الوطنية وحروبها الأهلية كثيرا عليها أوزار لا تطاق، حتى لم يعد ممكنا إلأ غير أن تكون المدن فى هذه المرحلة من التاريخ محلية وفقط محلية، فالفشل يقتل الأحلام بل يقتلعها من أساسها، فالروح الزيلعية التاريخية لم تتبقي إلا فى ضمير مدينة تحرق بنيران المناطقية والفئوية والعشائيرة المهيمنة فى حاضر أيامها، لدى سترى تناقضا بين تصورات المدينة عن نفسها مع فعلها السياسي وليست فريدة فى وضعها هذا
وحتى مهمة الربط بين الساحل والداخل، مهمة التوصيل بين حواضر والقرى والبوادى أصبحت مستحيلة، ليست فقط بسبب الحدود وإجرائاتها التى يتم تعقيدها لغرض شل الحركة بين هذه الحواضر بل أيضا بسبب غياب بنية تحتية مناسبة لخدمة الحركة داخل محافطة أودل ذاتها فضلا عما وراء الحدود. فالقرية التى إجتذبت التجار قبل قرن لموقعها الإستراتيجي التجاري تقف عاجزة اليوم حتى عن إمداد مديرياتها بالمستلزمات الحياة اليومية وكارثة الفيضانات الأخيرة كانت خير فاضح حين ظلت المساعدات المرسلة من المدينة إلى مناطق الساحلية التى تقع تحت إدارتها عالقة لأيام فى الطريق بسبب غياب طرق مجهزة
مر الآن قرن كامل، قدمت فيه المدينة كثيرا للأمة والوطن بمعانيها شاملة المتجاوزة للسلطة، فقدمت أحرف الأبجدية “العبدرحمانية” أو خط “غودابورسي” لكاتبة اللغة الصومالية، على يد أحد علمائها وقضاتها الشيخ عبدالرحمن قاضي، وعلى يده أيضا تأسست مدرسة حديثة تخلط بين تعليم الدينى والعلوم الحديثة مستقلة من سلطة المستعمر، وهى أقدم محاولة لتحديث التعليم فى وطن الصومالي فى حدود علمى وإعترفت سلطة الإنتداب لاحقا بالمدرسة واعتمدت شهادتها للتوظيف. كما قدمت المدرسة الثانوية الأولى والمدرسةال زراعية الأولى في ضاحية عمود التى تحولت لاحقا إلى جامعة عمود، أول جامعة بعد إنهيار جمهورية الصومالية
شائع أن المستعمر أقام هذه المدارس للتنوير والتحديث المجتمع، كما يتحسر الواقعون تحت وقع الإستشراق الداخلى واليورو مركزية الشديدة السخافة، وما يدندونون به من قيام الآباء بتضييع فرصة التنوير التى وفرها الرجل الأبيض، فعكس توقعاتهم كانت مبادرة تأسيس مدرسة “عمود” أهلية، وقدمت إلى المستعمر كمطلب شعبي كما ناورت الإدارة الإنتداب للسنين رافضة التنفيد بحجة قلة الميزانية لكن أهل المدينة لم يتركوها حتى نفذت المشروع وأقيم صرح “عمود” التعليمي. هذه قصة قد نرويها لاحقا، لكن “عمود” قمدت للوطن كادرا مهما فى كلا مراحلها حين كانت مدرسة وحين أصبحت جامعة بمبادرة أهلية فى كلا مرحلتين
كما أسست للغناء الصومالي الحديث عى يد أول مغنى ومغنية وهما عبدى سينمو وخديجة بلوو، حين استحدثو استخدام آليات الموسيقية غير التقليدية وبدؤو بلحنهم الأول بلو (Balwo) وهو أول لحن حديث صومالي، ثم أسسو أول فرقة غنائية بأسم بلوو باند (Balwo Band). وأيضا مؤتمر “بورمة” حيث أسست صوماليلاند بعد إخفاق الحركة الوطنية الصومالية في إدارة الأمور في البلد، لكن بعد قرن ما زال التناقض سيد الوقف فى مسيرة المدينة، وما زالت الحيرة والعجز رفيق دربها وما زال التمدن الكامل بعيدا فى الأفق كأي مدينة صومالية أخرى، وعلى كل حال فإن حكاية التمدد الصومالي الجديد وإخفاقاته تستحق الرواية ولربما يكون للحديث بقية
*
Comments